سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


حنك الدابة واحتنكها: جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها. قال:
نشكوا إليك سنة قد أجحفت *** جهداً إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي آكلَهما. استفز الرجل: استخفه، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده. وقيل لولد البقرة فز لخفته. قال الشاعر:
كما استغاث بشيء فز غيطلة *** خاف العيون فلم ينظرنه الحشك
الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء. وقال أبو عبيدة: جلب وأجلب. وقال الزجاج: أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه. وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر، وجمع عليه الجمع. الصوت معروف.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين. أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود. والثاني أنه لما قال {فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً} بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس {لأحتنكنّ ذريته إلا قليلاً} وانتصب {طيناً} على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي، فقال: من الهاء في خلقته المحذوفة، والعامل {خلقت} والزمخشري فقال {طيناً} أما من الموصول والعامل فيه {أأسجد} على آسجد له وهو طين أي أصله طين، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه {طيناً} انتهى. وهذا تفسير معنى. وقال أبو البقاء: والعامل فيه {خلقت} يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله {وخلقته من طين} وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله {أأسجد} استفهام إنكار وتعجب. وبين قوله {آأسجد} وما قبله كلام محذوف، وكأن تقديره قال: لم لم تسجد لأدم قال: {أأسجد} وبين قوله {أرأيتك} وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته، والكاف في {أرأيتك} للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج.
قال الحوفي: و{أرأيتك} بمعنى عرفني وأخبرني، وهذا منصوب بأرأيتك، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه. وقال الزمخشري: الكاف للخطاب و{هذا} مفعول به، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال: {لئن أخرتن}. وقال ابن عطية: والكاف في {أرأيتك} حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله {أرأيتك} زيداً أيؤمن هو. وقاله الزجاج ولم يمثل، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى. وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في {أرأيتك} هنا هو الصحيح، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله {هذا الذي كرّمت عليّ} لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل: زيد أيؤمن هو دخلت عليه {أرأيتك} فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر. وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل.
وقال الفراء: هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال: وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ {هذا الذي كرمت عليّ} انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله: {أرأيتك} بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول {أرأيتك} لذهب مذهباً حسناً، إذ لا يكون في الكلام إضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية، ومعنى {لئن أخرتن} أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً.
وقال ابن عباس: {لأحتنكنّ} لأستولين عليهم وقاله الفراء. وقال ابن زيد لأضلنهم. وقال الطبري: لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر، وظهر ذلك في قوله {أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ} إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء، وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال: {جزاؤكم} ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً، وانتصب {جزاءً} على المصدر والعامل فيه {جزاؤكم} أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل: تمييز ولا يتعقل {واستفزز} معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله {اعملوا ما شئتم} ومن في {من استطعت} موصولة مفعولة باستفزز. وقال أبو البقاء: {من استطعت} من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهر لأن {استفزز} ومفعول {استطعت} محذوف تقديره {من استطعت} أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله. وقال مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله. وفيهم بنات حسان، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا. وقيل: الصوت هنا الوسوسة.
وقرأ الحسن {واجلب عليهم} بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان، ومنه: يا خيل الله اركبي، والباء في {بخيلك} قيل زائدة. وقيل: من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد.
وقال ابن عطية: وقوله {بخيلك ورجلك}. وقيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى. وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى. وقرأ الجمهور: {ورجلك} بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم.
قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال. وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر:
رجلاً إلاّ بأصحاب ***
وقال الزمخشري: وقرئ {ورجلك} على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى. وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك. وقرئ: ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال. قال الضحاك: ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة. وقيل: ما أصيب من مال وحرام. وقيل: ما جعلوه من أموالهم لغير الله. وقيل: ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد. قال ابن عباس: تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية. وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة. ما مجّسوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام. وقال مجاهد: عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه. وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.
وقال الزمخشري: {وعدهم} المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً، وإيثار العاجل على الآجل انتهى. وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة، وبأنه لا شفاعة في الكبائر، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن. وانتصب {غروراً} وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي {وما يعدكم} ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم، والإضافة إليه تعالى في {إن عبادي} إضافة تشريف، والمعنى المختصين بكونهم {عبادي} لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان.
وقيل: ثم صفة محذوفة أي {إن عبادي} الصالحين، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله {إنما سلطانه على الذين يتولونه} وقال الجبائي: {عبادي} عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله {إلا من اتبعك من الغاوين} واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم، ومعنى {وكيلاً} حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو {وكيلاً} يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.


الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار.
وقال الفرزذق:
مستقبلين شمال الشام نضربهم *** بحاصب كنديف القطن منثور
والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة. تارة مرة وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة *** فيبدوا وتارات يجم فيغرق
القاصف الذي يكسر كل ما يلقى، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره. وقال أبو تمام:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت *** عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
وقيل: القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.
{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلاّ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً}.
لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحراً وبراً، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده. وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو. والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح، ومعنى {ضل} ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع، أو {ضل} من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره. ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق، وجاءت صفة {كفوراً} دلالة على المبالغة، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله.
وقال الزجاج: المراد بالإنسان الكفار، والظاهر أن {إلاّ إياه} استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله {من تدعون} إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله. وقيل: هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله والهمزة في {أفأمنتم} للإنكار. قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى. وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقدير فأمنتم.
وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي {أفأمنتم} أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم، وانتصب {جانب} على المفعول به بنخسف كقوله {فخسفنا به وبداره الأرض} والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك. وقال الزمخشري: أن نقلبه وأنتم عليه.
وقال الحوفي: {جانب البر} منصوب على الظرف، ولما كان الخسف تغييباً في التراب قال: {جانب البر} و{بكم} حال أي نخسف {جانب البر} مصحوباً بكم. وقيل: الباء للسبب أي بسببكم، ويكون المعنى {جانب البر} الذي أنتم فيه، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف {جانب البر} بسببهم إهلاكهم.
قال قتادة: الحاصب الحجارة. وقال السدّي: رام يرميكم بحجارة من سجيل، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم {لا تجدوا} عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم. و{أم} في {أم أمنتم} منقطعة تقدر ببل، والهمزة أي بل {أمنتم} والضمير في {فيه} عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول، والباء في {بما كفرتم} سببية وما مصدرية، أي بسبب كفركم السابق منكم، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً. والضمير في {به} عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال. وقيل عائد على الإرسال. وقيل: عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق. والتبيع قال ابن عباس: النصير، وقال الفراء: طالب الثأر. وقال أبو عبيدة: المطالب. وقال الزجّاج: من يتبع بالإنكار ما نزل بكم، ونظيره قوله تعالى {فسواها ولا يخاف عقباها} وفي الحديث: «إذا اتّبع أحدكم على ملئ فليتبع» وقال الشماخ:
كما لاذ الغريم من التبيع ***
ويقال: فلان على فلان تبيع، أي مسيطر بحقه مطالب به. وأنشد ابن عطية:
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها *** ضوامن غرم لدهن تبيع
أي مطالب بحقه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريح والحسن وأبو رجاء {فيغرقكم} بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء، عدّاه بالتضعيف، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن. وقرأ الجمهور: {من الريح} بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً.


لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة، كما تقول: ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن. وليس من كرم المال. وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق. وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم. وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له. وقيل: بالخط. وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة. وعن ابن عباس: بأكله بيده وغيره بفمه. وقيل: بتدبير المعاش والمعاد. وقيل: بخلق الله آدم بيده. قال ابن عطية: وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد، وكرم الديك. قال: وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى.
{وحملناهم في البر والبحر} وهذا أيضاً من تكريمهم. قال ابن عباس: في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل، وفي البحر على السفن. وقال غيره: على أكباد رطبة وأعواد يابسة. {والطيبات} كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته، فقالت طائفة: فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس. وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج. وقال ابن عطية: والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول. وقالت فرقة: الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون، وقد قال تعالى {ولا الملائكة المقربون} وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.
وقال الزمخشري: {على كثير ممن خلقنا} هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وحسب بني آدم {تفضيلاً} أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه.
وقيل: {وفضلناهم على كثير} بالغلبة والاستيلاء. وقيل: بالثواب والجزاء يوم القيامة، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة. وقيل: المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها.
ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال: {يوم ندعو كل إناس بإمامهم} واختلفوا في العامل في {يوم}. فقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو. وقيل: فتستجيبون. وقيل: هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف. وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول. وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف: والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله {ولا يظلمون}، وحكاه أبو البقاء وقدره {ولا يظلمون} يوم ندعو. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يعمل فيه {وفضلناهم} وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يكون {يوم} منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله {فمن أوتي كتابه} إلى قوله {ومن كان} انتهى. وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح، وقوله: لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين. وأما قوله: والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً، فقد يمكن أي ممن {أوتي كتابه} فيه {بيمينه} وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف.
وقال بعض النحاة: العامل فيه {وفضلناهم} على تقدير {وفضلناهم} بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل. وقال الزجاج: هو ظرف لقوله ثم لا تجد. وقال الفراء: هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم {يوم ندعو} والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة. وقرأ الجمهور: {ندعو} بنون العظمة، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول {كل} مرفوع به، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول: أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** وجهك بالعنبر والمسك الزكي
أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير. {وأناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في {بإمامهم} الظاهر أنها تتعلق بندعو، أي باسم إمامهم. وقيل: هي باء الحال أي مصحوبين {بإمامهم}. والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم. وقال الضحاك وابن زيد: كتابهم الذي نزل عليهم. وقال مجاهد وقتادة: نبيهم. قال ابن عطية: والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به. وقال الزمخشري: إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين، فيقال: يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر. وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين. وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى. وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها {فأولئك} جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله {أوتي كتابه بيمينه} وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} ولم يأت هنا قسيم من {أوتي كتابه بيمينه} وهو من يؤتي كتابه بشماله، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله.
{ومن كان في هذه أعمى} وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من {أوتي كتابه بيمينه} هم أهل السعادة {ومن كان في هذه أعمى} هم أهل الشقاوة {ولا يظلمون فتيلاً} أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء.
والظاهر أن الإشارة بقوله: {في هذه} إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي: من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح. وقال مجاهد: هو أعمى في الآخرة عن حججه. وقال ابن عباس أيضاً: {ومن كان في هذه} النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين {أعمى}. وقيل: ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى {وأضل سبيلاً} لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. وقيل: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. وقيل: أعمى البصر كما قال {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً} وقوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً} وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال ابن عطية: والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا {أي من كان} في دنياه {هذه} وقت إدراكه وفهمه {أعمى} عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه. وإذا جعلنا قوله {في الآخرة} بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين. وقال الزمخشري: والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله {أعمالكم} وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى. وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و{أعمى} ليس كذلك لأن تقديره {أعمى} من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل عطف {وأضل سبيلاً} لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو {أضل سبيلاً} وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب، و{أعمى} هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9